Sunday 8 March 2015

"القدس - تل أبيب" في الوعي الإسرائيلي

 

نائل الطوخي

القدس. 1999. عدسة: إلِكس ليفاك


"لماذا أكره القدس"، كان عنوان مقال في "هآرتس" كتبه الصحافي جدعون ليفي في تشرين الثاني الماضي، وأعلن فيه عن كراهيته للمدينة المقدّسة بالنسبة إلى العرب واليهود على حدّ سواء. استفز المقال كثيرين من أبناء القدس، ولكنه أيضاً ألقى الضوء على تناقضٍ جوهري مليء بالدلالات في الذهن الإسرائيلي بين القدس وتل أبيب: تل أبيب المدينة البيضاء التي تموج بفرص الرزق والفن والحياة الليلية والبحر، والقدس كمدينة مظلمة تحمل على كتفيها جبلاً وتاريخاً ثقيلاً من القداسة والدين. التناقض واقعٌ أيضاً بين المدينة المتسامحة النظيفة والمدينة المتعصّبة القذرة يظل حاضراً طول الوقت في الذهن الإسرائيلي.

لا أحبّ القدس.. لا تأتي إليها


يصدم جدعون ليفي قرّاءه من البداية بإعلانه المستفز: "لا أحب القدس، الحقّ أني أكرهها بما فيه الكفاية. أقلل من زيارتي لها قدر الإمكان، والخروج يكون سريعاً قدر الإمكان. في أساسها، هي مدينة قبيحة ومثيرة للأعصاب. في الجزء اليهودي منها، هناك عدد من الأماكن الجميلة، كلها في الأحياء القديمة. وفي الجزء الفلسطيني، توجد المدينة القديمة التي هي بالطبع مبهرة في جمالها وتاريخها. كلّ الباقي قبيح. قبيحة مساكن المستوطنين الجدد، وكذلك قبيحة الأحياء الفلسطينية، القذرة والمهملة. وكذلك أيضاً وسط المدينة. حتى جمال المدينة القديمة مسحه الزمان المدينة المحتلة هي دائماً قبيحة بشكل مخيف".
في صباه، عانى ليفي كثيراً، حسبما يقول، من الخطاب الرومنسي حول القدس بعد احتلالها في العام 1967: "لدى سكون الحرب، بينما كنت ما زلت صبياً، وقعت ضحية لـ"أورجي" العودة المقدّسة لصهيون، حالي كحال أبناء عمري. تأثرت لدرجة الدموع عند مرأى الجدار، قبر راحيل ومغارة المكبيلا، وما كان حولنا لم نره".
يضيف: "بعدها، جاءت سنوات الرومانتيكا، ولم تقل عمى وإنكاراً. النزهات الليلية في المدينة القديمة، الحمص، الطالبات بملابسهن المغزولة من السوق، النبيذ من دير كرميزان القريب، وطاولات النحاس في كل الصالونات. أحببنا القدس. أحببناها بالأساس لأن الرحلة إليها كانت رحلة إلى بلدٍ آخر. في تلك الأيام، كانت رحلات كهذه نادرة. شعرنا في القدس وكأننا في الخارج، لا قداسة ولا يهودية. بعض من أصدقائي انتقلوا للسكن في الدير شرق المدينة. كنا علمانيين، وكنا كالحالمين".
ولكن الأفكار تغيرت مع العام 1987، يقول: "الانتفاضة الأولى ذكّرت الإسرائيليين بأن الوضع لا يمكنه الاستمرار هكذا إلى الأبد، لا في الضفّة ولا في قطاع غزّة ولا في عاصمة أبد الآبدين. الاحتلال أجاب من جانبه بطريقته، بإحكامٍ أكثر عنفاً لقبضته. في الانتفاضة الثانية، أضاف الاحتلال أيضاً جداراً على المدينة، مزّق شرقها إلى شرائح. هكذا على الأقل انتهت الحفلة التنكرية: لم يعد الإسرائيليون العلمانيون يسافرون في قلب الليل ليأكلوا كعكاً بالملح في المدينة القديمة. ظلّت قداستها من نصيب المؤمنين والمتطرفين. ولكن أنظروا إلى هذه المعجزة: القدس (الموحدة) ظلت وعياً، ليس كمثلها شيء في العالم. كأن الإسرائيليين العلمانيين لم ينقطعوا منذ زمنٍ عن شرق المدينة، كأن علمانيين كثر لم يهجروا غربها، كأن كلاماً لم يكن عن أراضٍ محتلة في شرقها، كقلقيلية وطولكرم تحديداً".
ويختم ليفي مقاله بالقول: "ولكن، لقول الحقيقة حول القدس، نحتاج لسببٍ ما إلى قيادةٍ شجاعة غائبة. والحقيقة هي أنه لا توجد دولة على الأرض تعترف بها كعاصمة لإسرائيل. فالاحتلال دمّرها، وهي مجزّأة، ممزّقة، ومندوبة، وقداستها هي موضوع المؤمنين فقط، وليس هناك بأي حالٍ صلة بينها وبين السيادة. فتقسيمها لعاصمتين أو تحويلها إلى عاصمة الدولة الواحدة أمر أقل كارثية بكثير من استمرار احتلالها. وحتى الآن، لم يتبق إلا الابتعاد عنها، قدر الإمكان".
استفز المقال عدداً من سكان القدس، كان من بينهم الشاعر ألموج بيهار. فكتب رداً على ليفي في صفحته على "فايسبوك"، ذكّر فيه بأن القدس، وإن كانت خاضعة للاحتلال، فتل أبيب هي من تصنعه:
"نحن سكان القدس، متدينين وتقليديين، دينيين وعلمانيين، فلسطينيين ويهوداً، جميلين وقبيحين، نقول لك – لا تأت إلى هنا، لا تحبّ القدس، اذهب – ولكن تذكّر فقط أن تل أبيبك العلمانية، الليبرالية، والإنسانية، هي التي تتيح الاحتلال، هي التي تواصل الاحتلال، هي التي تربح اقتصادياً من الاحتلال. ولكنها تحب التباهي بنظافتها مقابل قذارتنا، تحب أن تحكي أن كل المشكلة هي مع [المتدينين اليهود] الحريديين، الفلسطينيين، اللاجئين، الشرقيين، وتواصل الاستمتاع بأرباح البورصة في شارع إحاد هاعام، وتواصل الرد بـ "لم أسمع" على قمع الشرقيين، وتواصل التصويت ليائيير لابيد ورون حولداي".
وأكمل الشاعر: "زبالتكم ترمونها بعيداً، مرة لقرية الخيرية ومرة للنقب، حتى تحكوا لأنفسكم أنكم نظيفون. ولكن أيّ تل أبيب تتخيلها؟ شارع روتشيلد والشمال؟ لأنكم تكدسون اللاجئين في الجنوب، بعيداً عنكم، حتى يتمكنوا من المجيء لمطاعمكم لغسل أواني محافظ المدينة الذي تحبه، الطيار رون حولداي بحضرته ومعاليه، وأنتم تريدون أن تختبئوا خلف الأبراج وتتخيلوا أن الحياة طبيعية. تتخيلون أمستردام، تتخيلون أنكم لو كنتم هنا وحدكم سيُصار إلى حلّ كل شيء بسهولة، لو فقط لم يكن هناك حريديون وشرقيون وفلسطينيون ولاجئون".

صدى معركةٍ متجذرة


مجاز "القدس - تل أبيب" هو مجازٌ متجذر في الوعي الإسرائيليّ. يصعب تحديد المرة الأولى التي طُرح فيها هذا المجاز. ولكن الشاعر الإسرائيلي البارز ناتان ألترمان أتى على هذا الذكر عندما كتب في العام 1946 قصيدة بعنوان: "ثمة شيء ما فيها"، يصف في مطلعها دخول امرأةٍ جميلة على مجموعةٍ من البشر، هم غير قادرين على تحديد سر جمالها: "ليس فيها شيءٌ ما، ولكن مع هذا، ثمة شيء ما فيها"، ثم سرعان ما يتضح أنه يقصد تلّ أبيب.
تكمل القصيدة: "يقول أهل القدس / نعم، تل أبيب، هي مجرد عجلة / لا أساتذة فيها ولو بحجم زيتونة، ولا أنبياء فيها إطلاقاً / لا شبر واحد من التاريخ فيها / لا جدية فيها، ولا وزن / صحيح جداً، سيدي وسيدتي / لا، ليس فيها شيء، ولا شيء، ولكن، مع هذا كله، ثمة شيءٍ ما فيها".
ومن حينه، لم يتوقف مجاز القدس كمدينة ثقيلة وتل أبيب كمدينة خفيفة، عن التكرّر في الخطاب الإسرائيليّ. في العام 1976، كتب الناقد والشاعر نسيم كلدرون مقالاً في مجلة "سيمان كريآه"، بعنوان: "كل هذا الكلام المقدسي الحلو"، قال فيه: "يكتب المتغطرسون الآن شعراً في القدس، وهي المدينة وافرة الظلام والمشهدية، وليس فيها أيّ شيء حاليّ ومباشر".
في السنوات الأخيرة، راجع كلدرون موقفه قليلاً، مع لمحة ضجر لاحت تجاه الخطاب المتتكرّر منذ عقود. إذ أفردت مجلة "نقوداتيم" الثقافية في العام 2004 ملفاً عن القدس، استضافته فيه لتعرف ما يقوله الشاعر بعد ثلاثين عاماً على كتابة تصريحه الشهير. بدا كلدرون ضجراناً، وقال: "اليوم، لم أكن لأكتب جملةً كهذه. قبل أيّ شيء، الموضوع استهلك وامتص حتى آخر القطرة في السنوات الأخيرة. من يعيش داخل العبرية خلال الثلاثين عاماً الماضية، ليس هناك ما يضيفه اليوم في موضوع القدس. وأقل من هذا يمكن إضافته بخصوص توتّر القدس - تل أبيب. في السبعينيات، كان يوجد ما نضيفه.. حتى وإن كنا جيلاً ثانياً من ناحية الانشغال بالتوتر بين تل أبيب والقدس".
يعدّد كلدرون مظاهر مدينة القدس، القداسة والتعصب والكراهية والامتلاء بالذات وفرط الأناقة، ثم يقول إن هذا لم يعد سارياً جداً اليوم:
"هذا كله كان بالأمس، بل وأمس الأول. منذ ذلك الحين، عرفنا سنوات جيدة وأقل جودة. ماذا يمكن أن نقول اليوم، ولم نقله بالأمس؟ ما الذي تمكن إضافته؟ أقرأ اليوم مقارنات بين القدس وتل أبيب، ولا أسمع فيها فقط ابتذالاً للفكرة التي فكروا فيها وطحنوها، وإنما أسمع أيضاً عجرفة تتبادل الكراسي الموسيقية. بدلاً من عجرفة القدس، التي انضربت بقسوة في السنوات الأخيرة (لا يوجد مثقف إسرائيلي لا يملك صديقاً باع شقة في القدس وانتقل مع عائلته وأطفاله إلى تلّ أبيب)، ظهرت عجرفة جديدة، عجرفة تل أبيب، عجرفة شارع شينكين، عجرفة الشباب المتعلم ما بعد الحداثي.. هذا يعني أناركية المقاهي والكلمات الناخرة المتأنقة".

من التاريخ إلى الحاضر

في عدد "نقوداتيم"، يبدأ الأديب المولود في وارسو دان تسلكا كلامه حول القدس وتل أبيب بالمقابلة بين مدينتي هاج وأمستردام في هولندا: هاج المدينة المربعة المغلقة المتعجرفة، في مقابل أمستردام المفتوحة والحرّة والشعبية. ثم يضيف البعد الزمني إلى التناقض بين القدس القديمة وتل أبيب الجديدة، قائلاً:
"أنا تل أبيبي. أصل إلى محطة أوتوبيس أورلوزوروف [في تل أبيب] وأنظر إلى البيوت، إلى اللافتات في الواقع. ليس هناك أيّ شيء خاص، ولكني أقول لنفسي: أخيراً وصلت المدينة. أما القدس الجبلية، الواقعة على حدود الصحراء، فقد بقي لها في خيالي شكل قلعةٍ ذات ماضٍ عميق، كونها مدينةً ذات أحياءٍ دينية، ومن الواضح في معمارها الرغبة بأن تبدو قديمة، حجرية من لون العصور الوسطى، مدينة المسيحية والإسلام، والرغبة في تحويلها إلى نقيض تل أبيب، التي هي مدينة جديدة خُلّد بعض تجارها منذ وقت غير طويل في استديو "تسلمانيا"، وهم يقفون على رمالها البكر ويقسمون التلال بينهم. حتى اسم تل أبيب، المأخوذ من ترجمة سوكولوف لهرتسل (كانت هناك مدينة قديمة مجهولة باسم مشابه، ولكنها سُميت، في ما يبدو لي، تل أبوبو). حتى اسمها هذا بدا مناسباً لمكانها، لكونها شيئاً جديداً، بلا تاريخٍ وسمو، فيها ما يشبه مستوطنة (بيتَح تكفاه)، فيها ما يشبه مستوطنة (ريشون لتسيون) على هيئة مدينة كبيرة، مدينة للتجار، للصناعة الخفيفة، للأعمال الذكية، مدينة ذات طابع اشتراكي اجتماعي وبرجوازي صغير".
وفي العدد ذاته، يكتب الشاعر من أصلٍ عراقي روني سوميك نصاً أدبياً عن القدس يقول فيه:
"أطنانٌ من التاريخ ملقاة على كتفيها. سار يسوع على أرضها المتألمة، رقص الملك داود فيها مع بت - شيفَع، وكتب سليمان الملك قصائد على قصورها. من كثرة الجدران، تصعب رؤية لون عينيها، يصعب الإحساس بكم من الفودكا موجود على شفتيها. وأصلاً، كيف يمكن، مثلاً، احتضان شابة في شارع اسمه (وادي الأشباح)؟".

الجديد والنظيف يسيران معاً


في العام 1977، فاز "حزب الليكود" للمرة الأولى في إسرائيل برئاسة الوزراء، وقد شكّل ذلك حينها صدمة للإسرائيليين العلمانيين والمستنيرين. ولم يبق مجاز تل أبيب - القدس بعيداً عن الأذهان في تلك اللحظة: القدس التي ترتفع أعداد اليهود المتدينين اليمينيين فيها، مقابل تل أبيب العلمانية "الحرّة" المعتدلة. لذلك، اكتسب مجاز القدس - تل أبيب طابع النور والظلام أيضاً: العلمانيون المستنيرون في مقابل المتدينين الظلاميين.
في هذا السياق، تمكن الإشارة إلى معركةٍ أدبيّة أخرى، بطلاها هما الشاعرة حبيبة بديا والناقد دان ميرون. في العام 1987، نشر الناقد دان ميرون مقالاً بعنوان: "لو لم تكن هناك القدس"، في كتاب يحمل العنوان ذاته. المقال انشغل بتحليل الأدب الإسرائيلي، دافعاً ثنائية القدس - تل أبيب إلى حدودها السياسية القصوى، بحيث تصبح تل أبيب المدينة الهادئة على غرار الاستيطان اليهودي القديم في فلسطين السابق للعام 1967، "قبل توترات العرب واليهود وبروز المتدينين اليهود". أما القدس فهي المدينة التي خضعت للاحتلال منذ العام 1967، والتي تعبّر عن قبح الحياة المعاصرة وظلامها.
يقول ميرون في مقاله إن الثقافة والأدب العبريين يبحثان لنفسيهما عن "لوكوس"، أو مكان محدّد في الزمان والمكان، ينكشف فيه الوجه الأكثر أصالة لهما. ويقرّر أن "الأدب الإسرائيلي مازال ينتمي إلى تلّ أبيب ضمن هذا المفهوم. فهو مؤسسة مغروسة في طابع ثقافة الحياة قبل العام 1967. ليس هناك ما يضيفه هذا الأدب لثقافة الحياة الإسرائيلية الجديدة، وهو لا يرتبط بها. الأدب الإسرائيلي هو التعبير الروحاني عن (الاستيطان القديم) الإسرائيلي، وهو بالنسبة إلى هذا الاستيطان يشبه تلموداً للاستيطان القديم الحريدي [المتدين]. سواء كان الأدب يتخذ موقفاً معارضاً، أو لا يتخذ موقفاً معارضاً، فهو من وجهة نظر ثقافة الحياة المعاصرة، المقدسية، ببساطة، غير ذي موضوع. ليس نابعاً من القوى الدينامية التي تشكّل وجه الأرض، ولا يعكسها".
في عدد "نقوداتيم" المخصص للقدس، ردّت عليه الشاعرة من أصل عراقي حبيبة بديا، بمقالٍ عنوانه: "لو لم تكن هناك تل أبيب". تبدو هي أيضاً ضجرة من النقاش حول القدس - تل أبيب، فتقول: "ما يصفه ميرون بثنائية المكانين التي يبنيها ببلاغةٍ شديدة تتناسب مع خلق الثنائيات، يشكّل الأساس لمونولوجات كثيرة تكتب على صفحات "هآرتس" بأيدي مقدسيين سابقين، انتقلوا إلى العيش في تل أبيب... تراهم، بتقوى مذهلة، يفصّلون مزايا تل أبيب ويدينون القدس".
تكمل: "هذا الوصف السوسيولوجي الأدبي، هذا التوجه التطهري والمطهّر، الذي يقدم تلّ أبيب كأنها محمية طبيعية لما قبل الاحتلال، يتجاهل تماما أن هذه (المحمية الطبيعية)، هي بالتحديد التي أتاحت، وبعجرفة لافتة، جميع عمليات الاحتلال. في العام 2004، يتأثر الناس بإمكانية الجلوس في مقهى في تل أبيب من دون إحصاء [متدينين] حريديين أو عرباً عند الدخول. وهذا التأثر ينسجم مع القولبة التي صنعها ميرون. لا مبالاة المركز الشبعان تتميز دائماً بالتوهم أن ما لا نراه في المركز غير موجود. ما هو ثمن ألا نرى (هذا) هنا (عندنا) (في المركز)؟ لا يسأل أحد عن هذا، هذا سؤال مدان".
إن كوزموبوليتانية تل أبيب يمكنها أن تكون قناعاً للـ "أيّ مكان"، كما تقول بديا، مكانٌ ليس مكاناً، مكانٌ ليس فيه سيطرة على الحقيقة، على التعقيد، على الألم، على الجرح الكبير للوجود هنا والآن. ما يعود بها إلى معضلة الأدب الإسرائيلي الذي يُرجع ميرون جذوره إلى المزاج التل أبيبي. فالأدب الإسرائيلي من وجهة نظرها، وهو تلمود التل أبيبيين بحسب تعبير ميرون، ليس إبداعاً متعدد الأصوات، مثلما كان التلمود في الحقيقة، "وإنما هو إبداع الذات القابعة داخل الغرفة الخالية، داخل (العالمي) الذي هو ليس إلا تصوراً عن (العالمي)، وهذا (العالمي) نفسه ليس، في الحقيقة، إلا الغرب".
تضيف بديا: "إلى هذا (اللا – مكان) المشتمل على الكثير من إنكار المعاناة والألم، الكثير من إنكار المسؤولية الجماعية عن الاحتلال، إنكار المسؤولية عن تدمير الأرض بالبناء الزائد وتدمير الطبقات الضعيفة، إلى داخل قلب هذا المكان يسعى الكثيرون للوصول والحج، من يريدون تحقيق الأمنية المشتهاة بأن يكونوا في المركز، مركز الحيز والزمان، مركز الفن، مركز النزهات، مركز الحياة الثقافية، مركز الشبع والنظافة. في هذا المركز / توجد الحياة الجيدة، الطعام، القهوة، الملابس، الموسيقى، السينما، والكتب. كل الإمكانيات المغلقة في بئر سبع، مثلاً، والمفتوحة في المدينة الكبيرة بلا توقف".
تقول: "لتل أبيب أيضاً ثمة أسطورة. أسطورة الجديد هي أسطورة لا تقل قسوة عن أسطورة القديم. أسطورة البدء في الخواء، في الرمال، في المكان الذي لم يكن فيه أي شيء من ذي قبل. تحديد نقطة قسرية في الزمان. الجديد والنظيف يسيران سوياً. أسطورة المحو. أسطورة اللا مبالاة والنسيان. من خلال عادة المحو، تمحو تل أبيب أحياناً أيضاً دورها الجوهري في (حالة الاحتلال)".
التأمل في الأدب الإسرائيلي يدفع ببديا في نهاية مقالها إلى "لو" التمنّي التي صاغ بها ميرون سؤاله: "لو لم تكن هناك القدس"، فتقول: "لو لم تكن هناك تل أبيب ولم يكن هناك مكان نحج إليه. لو كان الأدباء الشباب يكتبون من المكان المحدد جداً الذي يتواجدون فيه. لو نظروا إلى الهوامش الأكثر هامشية، مثل الكتابة الفلسطينية والعربية".
ماذا لو لم تكن تلّ أبيب موجودة؟ تتساءل بديا، وتجيب: "لن تكون هناك أسطورة الذات الكوزموبوليتانية، التي تبدع في رقعة شطرنج تبدو خالية، مزخرفة بما يبدو عالمياً، وهو ليس إلا الغرب. سيكون صعباً على جريدة محلية، تبدو كجريدة تل أبيبية، أن تخصص ثلاث صفحات لنعال التل أبيبيين، التي تتوسخ من غبار شجر الفيكوس الذي يتساقط على الرصيف بسبب الدبابير الآتية من أستراليا، وتمتنع – لو تكلمتُ عن مثال واحد أعرفه – عن نشر مقالات عن الاجتثاث المتواصل لكل الحدائق في بئر سبع، حدائق الأشجار وحدائق الأطفال".
بالنسبة إليها، القدس وتل أبيب هما وجهان للعملة الواحدة: "لا يمكن فصل (القبح) الذي يراه سكان العالم هؤلاء في القدس، عن (النظافة) التي يرونها في تل أبيب، النظيفة حتى من العرب. بين المدينتين، يمتد بهاء الوجه الأصيل للواقع. المدينتان سوياً يبنيان مفهوم "الهوية الإسرائيلية"، كلتاهما تخلعان من عليهما المكان الآخر: الضاحية".
السؤال من جانبها ليس عن القدس ولا عن تل أبيب، وإنما عن الضاحية، وهي المكان الأكثر تهميشاً في الحيز الجغرافي الإسرائيلي: "ليس حَرَم المتحف والمقهى في تل أبيب، ليس حرم جبل البيت، البعيد عن فكرة القداسة، ولا أرض الاستيطان – التي تخلق منظومات من القداسة تتجاهل منظومات أخرى للحياة اليائسة، وإنما فقط ما لا يقع اليوم في المركز، هو ما لا يشارك في الرقصة العمياء للإقصاء الثقافي، فقط الضاحية يمكنها أن تكون مركزاً حقيقياً".
__________________________________
المقال منشور بالأصل في ملحق "فلسطين"، الصادر عن مؤسسة السفير، عدد فبراير-شباط 2015

1 comment:

  1. طالب غيابك سنوات..!! اشتقنا لما تنشره.

    ReplyDelete

comment ya khabibi